للاطلاع على المصادر لقصة قانون 105\2018
السلم المنقوص وازدواجية العدالة
العام 1990، تمّ الإعلان الرسمي عن انتهاء الحرب في لبنان (1975 -1990) بموجب اتفاق الطائف الذي أقرّه مجلس النواب بتاريخ 5/11/1989. أهالي مفقودي تلك الحرب كانوا من أوائل المهلّلين بحلول السلام على اعتبار أن مَن سرقتهم الحرب سيعيدهم السلم. لكن للأسف، السلم المعلن جافاهم ولم يقترب منهم.
تتابعت مسيرة ذلك السلم المنقوص بإصدار قانون عفو عام* أعفيت بموجبه الجرائم المرتكبة بين 13 نيسان 1975 و28 آذار 1990، باستثناء الجرائم التي استهدفت القيادات السياسية والدينية والجرائم المستمرة والمتمادية. هكذا، حاولت سلطات ما بعد الحرب التهرّب من مسؤولية كشف مصير الذين خطفوا وفقدوا وتهميش أهاليهم، وانتهجت سياسة طمس أي محاولة لتأمين العدالة لآلاف الضحايا ولعائلاتهم. صارت العدالة في لبنان مزدوجة المعايير إذ مطلوب تأمينها لكبار الشخصيات والزعامات السياسية والدينية وممنوعة عن آلاف المواطنين العاديين.
رفض سياسة كمّ الأفواه وعفا الله عما مضى
إن سياسة التهميش وإدارة الظهر التي اعتمدت إزاء لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين لم تستطع كمّ أفواه الأهالي بل زادت أصواتهم ارتفاعاً واشتدّت عزائمهم أكثر لاسيما عندما اتُهموا من قبل بعض المسؤولين بأن استمرار مطالبتهم بحقّهم بمعرفة مصير أحبائهم يهدّد السلم الأهلي. لقد طلب المسؤولون من أهالي الضحايا نسيان أحبائهم ونسيان كل ما جرى في الماضي وعدم التطلّع إلى الوراء بل نحو المستقبل والانخراط في ورشة إعادة الإعمار. إن اقتصار إعادة إعمار ما هدّمته الحرب من حجر دون البشر يعني التخلّي عن الضحايا وذويهم والتنكّر للماضي بدل مواجهته والعمل على معالجة نتائجه لضمان عدم تكراره في المستقبل.
قانون بمثابة ورقة نعي المفقودين ودفنهم دون جثث
أمام عناد الأهالي واستمرارهم بالمطالبة بحقّهم بمعرفة مصير أحبتهم وعدم رضوخهم لسياسة التناسي وإسدال الستار على ما جرى وكأنّ الحرب لم تحصل، لجأت السلطات المعنية إلى الالتفاف حول الموضوع في محاولة لإجهاضه فانتقلت من التجاهل إلى المواجهة وأصدرت في العام 1995 قانون "الأصول الواجب اتباعها لإثبات وفاة المفقودين"**. رفض الأهالي هذا الإنكار الوقح عبر دعوتهم بموجب هذا القانون للتخلّي عن أبنائهم، عن ألف باء الإنسانية. فبدل إصدار قانون يضع آلية واضحة سعياً لتقفّي أثر المفقودين والكشف عن مصيرهم، تذاكت السلطة بمنحها الأهالي آلية لتوفية ذويهم دون أي دليل يثبت ذلك، إضافة إلى محاولة ضرب قضية إنسانية بحجم الوطن عبر تجزئتها إلى ملفات إفرادية وإعادة كل ذوي مفقود إلى مرجعيته الطائفية.
قانون رقم 84/91 تاريخ 26/8/1991
قانون رقم 443 تاريخ 15/5/1995
حملات وطنية ولجان رسمية بلا صلاحيات
أمام استمرار الاستلشاق الرسمي، وانشغال الناس بهمومهم اليومية، رأت لجنة الأهالي أنه لا بد من حثّ كافة شرائح المجتمع لدعم هذه القضية باعتبارها قضية وطنية عامة ومسؤولية حلّها لا تقع فقط على عاتق أهالي الضحايا بل هي مسؤولية المجتمع ككل. لهذه الغاية، قامت اللجنة بتنظيم تحرّكات وأنشطة ترافقت مع تأطير أصدقاء تطوّعوا لدعم القضية وتبنوا مطالب اللجنة.
كانت خطوة تشكّل إطار أصدقاء للقضية في غاية الأهمية. تبنّى هذا الإطار مطالب لجنة الأهالي الثلاثة: تشكيل لجنة رسمية للاستقصاء الجدّي عن جميع المخطوفين والمفقودين وتحديد مصيرهم. إقرار مشروع رعاية اجتماعية لعائلاتهم يضمن لهم حياة كريمة. إعلان يوم 13 نيسان من كل عام يوماً وطنياً للذاكرة وإقامة نصب تذكاري لضحايا الحرب. كما حمل شعار لجنة الأهالي "من حقّنا أن نعرف" اسماً له. أطلقت لجنة الأهالي وأصدقاؤها أواخر العام 1999حملة "من حقنا أن نعرف".
كانت أولى إنجازات الحملة تشكيل هيئة تحقيق رسمية عام 2000. هذه الإنجاز لا يعني أن السلطة كانت قد بدأت تستجيب فعلاً، بل حاولت تأكيد صحة القانون الذي سبق ودعا أهالي المفقودين إلى توفية ذويهم. هكذا جاءت خلاصة تقرير لجنة التحقيق بأنها لم تجد مفقودين أحياء بل وجدت مقابر جماعية منتشرة على الأراضي اللبنانية دون أي دليل يثبت صحة ذلك. وبالرغم من المطالبة المتكرّرة بقي ملف التحقيق المزعوم طيّ الإخفاء والسرية بحجة الحفاظ على السلم الأهلي. إن استمرار النضال والذي تصاعدت وتيرته إثر خروج 59 شخصاً في السجون السورية دفع السلطة التنفيذية إلى تشكيل هيئة جديدة (العام 2001) تلتها أخرى (العام 2005). وبالرغم من تمديد مهل عمل كل منهما عدة مرات، لم تصدر نتائج تُذكر بشأن مصير المفقودين سواء في لبنان أو سوريا.
مشروع قانون الأشخاص المفقودين والمخفيين قسراً
عام 2010، وبدعم من المركز الدولي للعدالة الانتقالية ومنظمة فريدريتش إيبرت، قام وفد ضمّ ممثلين اثنين عن الأهالي ونائبين من البرلمان اللبناني إضافة إلى محامي لجنتي الأهالي وإعلامية وممثلين عن وزارات العدل والداخلية والشؤون الاجتماعية بزيارة إلى البوسنة للاطلاع على تجربتها في مجال البحث عن المفقودين. تبعاً لهذه الزيارة توافق أفراد الوفد اللبناني على وجوب إعداد مشروع قانون لمعالجة قضية الأشخاص المفقودين والمخفيين قسراً ليكون نقطة ارتكاز النضال من أجل إدخاله إلى مجلس النواب وفرض إقراره.
عملت لجنة الأهالي وجمعية سوليد*** بالتعاون مع اختصاصيين قانونيين وممثلين عن هيئات غير حكومية وعن منظمات دولية على صياغة مشروع قانون المفقودين والمخفيين قسراً.
عام 2012، نظّم المركز الدولي للعدالة الانتقالية في لبنان حفل إطلاق مشروع القانون في فعالية عامة وبحضور أصدقاء القضية وممثلين عن المنظمات الداعمة، وشخصيات دبلوماسية ونواب وإعلاميين. كل محاولات الأهالي لإيصال مشروع القانون إلى مجلس النواب قوبلت بالقمع والمنع. واستكمل المخطط الرسمي المشبوه بإعداد مشروع مرسوم لتشكيل هيئة وطنية ليحل مكان مشروع القانون. لكن الأهالي تمكنوا من لإفشال هذه المحاولة الالتفافية الرسمية وتمسكوا بمشروع القانون وتمكنوا من إدخاله إلى مجلس النواب العام 2014 إثر صدور قراري مجلس شورى الدولة**** رداً على المراجعة الذي سبق أن تقدّمت بها لجنة الأهالي وسوليد ممثلتين بالمحامي نزار صاغية والقاضي بتسليمنا نسخة عن ملف التحقيق الذي أجرته لجنة التحقيق الرسمية العام 2000 دون أي استثناء أو انتقاص أو تقييد.
هكذا كبرت زوّادة لجنة الأهالي وسوليد، وتمحورت المطالبة حول إقرار قانون المفقودين والمخفيين قسراً. لهذه الغاية تم تنظيم عدة حملات وطنية بدءاً من العام 2014: حملة "زورونا"، حملة "40 الحرب"، حملة "العريضة الوطنية"، وحملة "لائحة المفقودين في كل لبنان" وحملة "آب شهر المفقودين في لبنان".
لجنة دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين في السجون السورية (سوليد) مؤسسها ومديرها الراحل غازي عاد
قرارا مجلس شورى الدولة رقم تاريخ ورقم تاريخ
صدور قانون المفقودين والمخفيين قسراً
بعد رحلة طويلة من النضال الدؤوب للأهالي مع داعمي القضية (36 عاماً)، صدر قانون المفقودين والمخفيين قسرا 105/2018.
هذا القانون يُعدّ إنجازا هاماً لأهالي المفقودين والمخفيين قسراً لأنه كرّس حقّ كل عائلة بمعرفة مصير مفقودها حياً كان أو ميتاً.
بموجب هذا القانون جرى تشكيل هيئة وطنية مستقلة مهمتها تقفّي أثر المفقودين والكشف عن مصيرهم. هذا القانون يلزم جميع مَن لديهم معلومات تتعلق بالمفقودين بالإفصاح عنها للهيئة الوطنية تحت طائلة المحاسبة الجزائية في حال عدم الإفصاح، أو في حال إعطاء معلومات خاطئة لتضليل التحقيق، أو في حال العبث بالمقابر الجماعية. الأمر الذي يعني أن هذا القانون لن يحاسب المرتكبين على ارتكاباتهم في الماضي بل سيحاسب على الحاضر، أي كل مَن يتنكر حاضرا لحق الأهالي بالمعرفة.
يضع القانون 105/2018 آليات لجبر الضرر المعنوي والمادي للأهالي، وإحقاق العدالة عبر ترميم حقوق الضحايا وعائلاتهم. الأمر الذي يؤسس لإقفال ملف الحرب من خلال مسار العدالة الانتقالية. إن الكشف عن مصير المفقودين ضمن الآليات القانونية يؤدّي إلى ترميم الذاكرة الجماعية وبنائها على إبراز المعاناة الإنسانية التي تتخطى الطائفية والسرديات التي أرستها الميليشيات بعد انتهاء الحرب.
أقر مجلس النواب اللبناني قانون المفقودين والمخفيين قسراً بتاريخ 12/11/2018 وصدر برقم 105تاريخ 30/11/2018 105/2018.
شكلت الهيئة الوطنية المستقلة للمفقودين والمخفيين قسراً بموجب المرسوم رقم 6750 تاريخ 3/7/2020 وتعديلاته.